يدّعي هؤلاء الذين يؤمنون بما يسمى «صدام الحضارات» أن الإسلام لا يمكن أن يزدهر في الغرب دون أن يوجد تهديدا هناك. إلا أن حديثا كهذا لا يجد سوى آذانا صماء في فرنسا، حيث تواجد الإسلام منذ العصور الوسطى، رغم أن ذلك كان بأعداد صغيرة جدا في البداية.
منح الغزو الجزائري عام 1830 والمحميات الفرنسية على المغرب وتونس نكهة شمال إفريقية مميزة للإسلام في فرنسا. وقد شكل قرار الحكومة الفرنسية بناء المسجد الكبير في قلب مدينة باريس اعترافا بالتضحيات التي قدمها عشرات الآلاف من الجنود المسلمين في الحرب العالمية الأولى.
تتجذر العلمانية بعمق في التاريخ الفرنسي، ويؤثر هذا التراث المعمق كذلك على الوضع الحالي للمسلمين. ورغم أن ثورة العام 1789 منحت جنسية كاملة لليهود في فرنسا إلا أنها حرمتهم الحق في أن ينظموا أنفسهم كجالية أو مجتمع محلي، وحتى يومنا هذا، ما زالت الجمهورية حذرة بشكل كبير من أي شيء يشبه التعددية الثقافية.
ورغم أن الفصل بين الكنيسة والدولة ترسخ عام 1905، إلا أن الإسلام لم يكن شريكا في هذا الميثاق بين الجمهورية والكنيسة الكاثوليكية. لهذا السبب، تعتبر المساجد في فرنسا أحيانا بروزا للتجمعات الثقافية مقارنة بالدينية.
يمنع القانون الفرنسي جمع البيانات الإحصائية على أساس الأصول الدينية أو العرقية، إلا أن التقديرات الحالية تقدر عدد السكان المسلمين بأربعة أو خمسة ملايين، أي 6 في المئة إلى 8 في المئة من مجمل عدد السكان. تستضيف فرنسا، بتعابير مطلقة أو نسبية، أكبر جالية مسلمة في أوروبا الغربية. كما أنها منحت الجنسية بكرم يفوق كرم الدول المجاورة لها. لذا فإن المسلمين في فرنسا فرنسيون أولا وقبل كل شيء، وأصبحت الروابط بينهم وبين دوَلِهم الأصلية أضعف، بشكل طبيعي، في الأجيال الثانية بل وأكثر في الأجيال الثالثة.
ويبلغ معدل الزواج من غير المسلمات أو المسلمين 20 في المئة - 50 في المئة، حسب المجموعات ذات العلاقة. وتبرز هذه الحقيقة في وجه كل مفهوم لتعبير «جالية».
ونظرا لتنوعه الهائل، يصعب اختصار الإسلام في فرنسا إلى مجرد صورة نمطية. من ناحية، تضيف مجموعة كبيرة من المسلمين الذين جرى استطلاعهم أنفسهم بأنه لا دين لهم. من ناحية أخرى يقول هؤلاء الذين يمارسون العبادة أنهم يفضلون أن يفعلوا ذلك على أسس فردية بدلا من العبادة الجماعية في مسجد، حتى ولو مرة في الأسبوع.
إلا أن الصيام في شهر رمضان المبارك أخذ يزداد شعبية، ويحتفل به أحيانا في حفلات عشاء مفتوحة للجميع. وتنشط مجموعة من الطوائف الصوفية في فرنسا، ويذهب أكثر من 40,000 حاج إلى مكة المكرمة كل عام لأداء فريضة الحج. وأخيرا، يعتبر التحول إلى الإسلام سمة مثيرة للانتباه، كما شهدنا في حالة لاعب الكرة الشهير فرانك ريبري أو مغني الراب عبدالمالك.
ورغم أن الجمهورية العلمانية غير متحيزة دينيا أو غير ذلك، يتوجب عليها كذلك أن تشرك زعماء المسلمين في قضايا معينة، مثل ذبح الأضاحي والتقويم السنوي الديني والمقابر الدينية ورجال الدين المسيحيين في القوات المسلّحة ضمن أمور أخرى.
وفي العام 2003 نتج عن عملية استشارية مضنية انتخاب مجلس فرنسي للدين الإسلامي، تقتصر شرعيته وتكليفه على الشئون الدينية. واقع الأمر ارتفعت العديد من الأصوات منادية بحرمان هذا المجلس من أية مطالبات بأنواع أخرى من التمثيل.
كان أول رئيس لهذا المجلس إمام المسجد الكبير، دليل بوبكر. وقد أعيد انتخابه العام 2005، إلا أنه تم نقل الوظيفة إلى محمد موسوي العام 2008، وهو أستاذ جامعي. وقد أظهر ذلك نقلة نوعية مفعمة بالمعاني والرموز. إلا أن معظم العمل يتم في المجالس الإقليمية للعقيدة الإسلامية بالتعاون مع السلطات المحلية.
قد جرى وصف أعمال الشغب في الضواحي العام 2005 خطأ بأنها «إسلامية»، من قبل الإعلام الأنغلو ساكسوني بالدرجة الأولى، رغم أن الإسلام لم يلعب أي دور بالمرة في هذه الاضطرابات الاجتماعية الخطيرة، لا بأسلوب إيجابي (لم يكن لأي من المناشدات التي أصدرتها المساجد أي أثر) ولا بأسلوب سلبي (لم يتم تحديد أي مثير مسلم للشغب).
بعد بضعة شهور من أعمال الشغب، كشف استطلاع أجراه مركز بيو للبحوث في أربعة دول أوروبية وأن ثلاثة من كل أربعة مسلمين في فرنسا لا يرون تناقضا بين الالتزام الديني والانخراط الاجتماعي (مقابل واحد من كل ثلاثة في المملكة المتحدة).
وفي فرنسا حدد المستَطلَعون هويتهم بشكل متساوٍ من حيث الجنسية الفرنسية والعقيدة الإسلامية، بعكس ألمانيا وأسبانيا، حيث حددت أقلية بالغة الصغر الجنسية كجزء من الهوية. ويعود سبب هذه النتائج إلى حد بعيد إلى اشتمال التنوع الإسلامي في الهيكل العلماني للجمهورية الفرنسية.
الكاتب: جان بيير فيليي: أستاذ في العلوم السياسية في معهد الدراسات السياسية بباريس وأستاذ زائر بجامعة جورجتاون في واشنطن العاصمة. فاز كتابة الأخير «يوم الرؤيا في الإسلام» (دار فايارد للنشر 2008) بالجائزة الرئيسية في مؤتمر التاريخ الفرنسي، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»