محمد فاروق الإمام
ألا زال العرب والمسلمون يذكرون الأندلس (الفردوس المفقود) وهم يسيرون على نفس الخطى التي سارت عليها دول الطوائف والإمارات الأندلسية بعد أكثر من ستمائة عام على فقدان هذا الفردوس؟!..
وحتى لا ننسى ونحن نتقلب على جمر الانشقاقات والصراعات والاقتتال، واحتساء كؤوس مرارة ظلم الحكام الديكتاتوريين وجور الأنظمة الاستبدادية الشمولية وحنظل فعالهم، واللجوء في حل مشاكلنا وحماية أوطاننا إلى الأعداء بمختلف مسمياتهم لينصفونا من ظلم الظالمين المستبدين ويساعدونا في تحرير أوطاننا من المحتلين (معادلة يصعب فهمها)!!
ففي مثل هذا اليوم الثاني من ينايرعام 1492م اختتمت المأساة الأندلسية, واستولى القشتاليون على غرناطة آخر الحواضر الإسلامية في إسبانيا, وخفق العلم الصليبي ظافراً فوق صرح الإسلام المغلوب، وانتهت بذلك دولة الإسلام بالأندلس, وطويت إلى الأبد تلك الصفحة المجيدة المؤثرة من تاريخ الإسلام, وقضي على الحضارة الأندلسية الباهرة, وآدابها وعلومها وفنونها, و كل ذلك التراث الشامخ, بالفناء و المحو!!
شهد المسلمون احتلال العدو الظافر لحضارتهم ودار ملكهم, ومواطن آبائهم وأجدادهم, وقلوبهم تتفطر حزنا وأسى.
قلة من يعرف ماذا فعل القشتاليون في غرناطة بعد استسلامها لهم.. وحتى لا تنسينا همومنا وما نفعل نحن في أوطاننا، وما يقوم به الغزاة والمحتلون من أفاعيل فينا وبأرضنا ومياهنا وهوائنا.. فما الذي حدث يوم الثاني من ينايرعام 1492م:
ما هو هذا الحدث المزلزل الذي حل بالمدينة فغير خارطة الأحداث بمنطقة البحر المتوسط والعالم أجمع, وغطت أهميته على أمرين هامين وقعا أيضاً في نفس السنة: قرار طرد اليهود من إسبانيا واكتشاف (المنسوب زورا إلى كريستوف كولمبس) القارة الأمريكية؟ ما هي تفاصيل هذا اليوم الذي يزعم الصليبيون أنه كان آخر يوم في حرب استرداد دامت ثمانية قرون؟ وكيف عاشت غرناطة آخر أيامها قبل أن تُسلم إلى جلادها, ليُنصّر أبناءها و يُستعبدوا و يُحرّقوا بنيران محاكم التفتيش الرهيبة فيما بعد استسلامها؟
تصفحت كتب التاريخ واعتمدت على روايات كلها قشتالية وأوربية إلا رواية إسلامية واحدة (وهي للأسف الرواية الإسلامية الوحيدة التي تروي تفاصيل ما حدث يوم2 ينايروقد خطها كاتب مجهول عاصر الأحداث). وتتفق كل هذه الروايات على أنه في صباح هذا اليوم, كان المعسكر الصليبي في (شنتفي) يموج بالضجيج والابتهاج. وكانت الأوامر قد صدرت والأهبة قد اتخذت لاحتلال المدينة. وكان قد اتفق بين أبي عبد الله والملك فرديناند أن تطلق من الحمراء ثلاثة مدافع تكون إيذاناً بالاستعداد للتسليم. ولم يشأ فرديناند أن يسير إلى الحاضرة الإسلامية بنفسه, قبل التحقق من خضوعها التام, واستتباب الأمن والسلامة فيها, فأرسل إليها قوة من ثلاثة ألاف جندي وسرية من الفرسان, وعلى رأسها الكاردينال (بيدرو دي مندوسا) مطران إسبانيا الأكبر. وكان من المتفق عليه أيضاً بين فرديناند و أبي عبد الله ألا يخترق الجيش الصليبي شوارع المدينة, بل يسير تواً إلى قصبة الحمراء, حتى لا يقع حادث أو شغب. ومن ثم فقد اخترق الجند القشتاليون الفحص إلى ضاحية أرميليا (أرملة) الواقعة جنوبي غرناطة, ثم عبروا نهر (شنيل), واتجهوا توا إلى قصر الحمراء من ناحية التل المسمى (تل الرحى), الواقع غربي المدينة وجنوبي غربي الحمراء.
وسار الملك فرديناند في الوقت نفسه في قوة أخرى, ورابط على ضفة شنيل, ومن حوله أكابر الفرسان والخاصة في ثيابهم الزاهية, حتى يمهد الكاردينال الطريق لمقدم الركب الملكي. وانتظرت الملكة إيزابيلا في سرية أخرى من الفرسان في أرميليا, على قيد مسافة قريبة.
ووصل الجند القشتاليون إلى مدينة غرناطة من هذه الطريق المنحرفة نحو الظهر, وكانت أبواب الحمراء قد فتحت وأخليت أبهاؤها استعداداً للساعة الحاسمة.
وسلم الحرس المسلمون السلاح والأبراج, وكان يسود المدينة كلها, ويسود القصبة والقصر, وما إليه, سكون الموت وصمت أهل المقابر.
وسلم أبو عبد الله بنفسه الحمراء, فعندما تقدم القشتاليون من تل الرحى صاعدين نحو الحمراء تقدم أبو عبد الله من باب الطباق السابع راجلاً, يتبعه خمسون من فرسانه وحشمه. فلما عرف الكاردينال أبا عبد الله, ترجل عن جواده, وتقدم إلى لقائه, وحياه باحترام وحفاوة, ثم ابتعد الرجلان قليلاً, وتحدثا برهة على انفراد, ثم قال أبو عبد الله بصوت مسموع : (هيا يا سيدي, في هذه الساعة الطيبة, وتسلم هذه القصور – قصوري- باسم الملكين العظيمين اللذين أراد لهما الله القادر أن يستوليا عليهما, لفضائلهما, وزلات المسلمين).
فوجه الكاردينال إلى أبي عبد الله بعض عبارات المواساة, ودعاه إلى أن يقيم في خيمته في المعسكر الملكي طيلة الوقت الذي يمكثه في (شنتفي), فقبل أبو عبد الله شاكراً, ثم سار في فرسانه وحشمه للقاء الملك الكاثوليكي.
وتم تسليم القصور الملكية والأبراج على يد الوزير ابن كماشة, الذي ندبه أبو عبد الله للقيام بهذه المهمة, وما كاد الكاردينال وصحبه يجوزون إلى داخل القصر الإسلامي المنيف حتى رفعوا فوق برجه الأعلى, وهو المسمى برج الحراسة صليباً فضياً كبيراً, هو الذي كان يحمله الملك فرديناند خلال حرب غرناطة, كما رفعوا إلى جانبه علم قشتالة وعلم القديس (ياقب), وأعلن المنادي من فوق البرج بصوت جهوري ثلاثاً أن غرناطة أصبحت ملكاً للملكين الكاثوليكيين, وأطلقت المدافع تدوي في الفضاء, ثم انطلقت فرقة الرهبان الملكية ترتل صلاة (الحمد لله) على أنغام الموسيقى, وهكذا كان كل ما هنالك يؤكد الصفة الصليبية العميقة لهذه الحرب التي شهرتها إسبانيا الصليبية على الأمة الأندلسية, وعلى الإسلام في إسبانيا.
وفي أثناء ذلك كان أبو عبد الله في طريقه إلى لقاء الملك الكاثوليكي , وكان فرديناند يرابط كما قدمنا على ضفة نهر (شنيل), على مقربة من المسجد الذي حول فيما بعد إلى كنيسة (سان سيبستيان). وهنالك لقي أبو عبد الله عدوه الظاهر, وسلمه مفاتيح الحمراء.. وكذلك قدم أبو عبد الله خاتمه الذهبي, الذي كان يوقع به على الأوامر الرسمية, إلى الكونت دي تانديليا, الذي عين محافظاً للمدينة.
وسار في صحبه بعد ذلك في طريق شنتفي, يتبعه أهله, أمه وزوجه وأخواته, وكان موكباً حزيناً تتقطع له نياط القلب.. وعرج في طريقه على محلة الملكة إيزابيلا في أرميلية, فاستقبلته وأسرته برقة ومجاملة, وحاولت تخفيف آلامه وسلمته ولده الصغير الذي كان ضمن رهائن التسليم.
وسارت الملكة إيزابيلا على أثر استقبالها لأبي عبد الله, وانضمت بصحبها إلى الملك فرديناند, ثم سار الاثنان إلى الحمراء, بينما انتشر الجند القشتاليون في الساحة المجاورة. ودخل الملكان من باب (الشريعة), حيث استقبلهما الكاردينال مندوسا والوزير ابن كماشة, وأعطى مفاتيح الحمراء إلى الدون دييغو دي مندوسا الذي عين حاكماً للمدينة , وبعد أن تجول الملكان قليلاً في القصر, وشهدا جماله و روعته, عادا إلى شنتفي , وبقي الكونت دي تانديليا في الحمراء مع حامية قوية من 500 جندي.
ثم عاد الملكان فزارا الحمراء زيارتهما الرسمية في يوم 6 يناير, و سارا في موكب فخم من الأمراء والكبراء وأشراف العوائل, ودخلا غرناطة من باب البيرة, ثم جازا إلى الحمراء من طريق مرتفع (غمارة), ودخلا قصر الحمراء وجلسا في بهو قمارش أو المشور، حيث كان يجلس الملوك المسلمون في نفس المكان على عرشهم, على عرش أعده الكونت دي تنديليا, وهنالك أقبل أشراف قشتالة للتهنئة, وكذلك بعض الفرسان المسلمين, الذين أتوا ليقدموا شعائر التحية والتجلة لسادتهم الجدد.
وفي خلال ذلك كان الملكان الكاثوليكيان قد أفرجا عن رهائن المسلمين الخمسمائة, وفي مقدمتهم ولد أبي عبد الله, وأفرج المسلمون من جانبهم عن الأسرى الإسبان, وعددهم نحو 700 أسير. وتعهد القشتاليون من جانبهم أن يطلقوا سراح الأسرى المسلمين في سائر مملكة قشتالة في ظرف خمسة أشهر بالنسبة للأسرى الموجودين بالأندلس وثمانية أشهر بالنسبة للأسرى الموجودين في بقية أراضي قشتالة.
وهكذا اختتمت المأساة الأندلسية, وضاع الفردوس المفقود، واستولى القشتاليون على غرناطة آخر الحواضر الإسلامية في إسبانيا, وخفق علم الصليبيين ظافراً فوق صرح الإسلام المغلوب, وانتهت بذلك دولة الإسلام بالأندلس, وطويت إلى الأبد تلك الصفحة المجيدة المؤثرة من تاريخ الإسلام, وقضي على الحضارة الأندلسية الباهرة, وآدابها وعلومها وفنونها, التي بقي الغرب حتى القرن السابع عشر ينهل من معينها، وكل ذلك التراث الشامخ, بالفناء والمحو .
المصدر : موقع رابطة أدباء الشام