كتبها: جون وليام كلوتس
عالم في الوراثة - حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة بيتسبرج - أستاذ علم الأحياء والفسيولوجيا بكلية المعلمين بكونكورديا منذ سنة 1945 - عضو جمعية الدراسات الوراثية - متخصص في الوراثة وعلم البيئة.
عندما حاولت ان اكتب في هذا الموضوع جالت بخاطري حكمتان قديمتان من الحكم المقدسة، وهما:
(السماوات تشهد بجلال الله، وإحكامها يدل على بديع صنعته) .
ان هذا العالم الذي نعيش فيه، قد بلغ من الاتقان والتعقيد درجة تجعل من المحال ان يكون قد نشأ بمحض المصادفة. انه مليء بالروائع والأمور المعقدة التي تحتاج إلى مدبر، والتي لا يمكن نسبتها إلى قدر أعمى. ولا شك ان العلوم قد ساعدتنا على زيادة فهم وتقدير ظواهر هذا الكون المعقدة. وهي بذلك تزيد من معرفتنا بالله ومن ايماننا بوجوده.
ومن التعقيدات الطريفة في هذا الكون، ما نشاهده من العلاقات التوافقية الاضطرارية بين الأشياء احيانا. ومن أمثلتها العلاقة الموجودة بين فراشة اليوكا وثبات اليوكا وهو احد النباتات الزنبقية. فزهرة اليوكا تتدلى إلى أسفل ويكون الجزيء من الزهور الذي يتلقى حبوب اللقاح، فانه يكون على شكل الكأس وهو موضوع بطريقة يستحيل معها ان تسقط فيه حبوب اللقاح. ولا بد ان تنتقل هذه الحبوب بوساطة فراشة اليوكا التي تبدأ عملها بعد مغيب الشمس بقليل، فتجمع كمية من حبوب اللقاح من متك الأزهار التي تزورها وتحفظها في فمها الذي بني بطريقة خاصة لأداء هذا العمل. ثم تطير الفراشة إلى نبات آخر من نفس النوع وتثقب مبيضها بجهاز خاص في مؤخر جسمها، ينتهي بطرف مدبب يشبه الإبرة وينزل منه البيض. وتضع الفراشة بيضة او اكثر ثم تزحف إلى أسفل الزهرة حتى تصل إلى القلم، وهنالك تترك ما جمعته من حبوب اللقاح على صورة كرة فوق ميسم الزهرة. وينتج النبات عددا كبيرا من الحبوب يستخدم بعضها طعاما ليرقة الفراشة وينضح بعضها لكي يواصل دورة الحياة.
وهنالك علاقة مشابهة بين نبات التين ومجموعة من الزنابير الصغيرة. وينتج هذا النبات نوعين من مجموعات الأزهار يحتوي احدهما على الأزهار المذكرة والمؤنثة معا. اما الآخر فجميع ازهاره مؤنثة. ويقوم بتلقيح الأزهار المؤنثة في كلا النوعين السابقين اناث الزنابير. وتكون فتحة التخت الذي يحمل مجموعات الازهار في كلا النوعين ضيقة إلى حد كبير بسبب احاطتها بكثير من الأوراق الحرشفية، مما يجعل وصول الحشرة إلى الداخل يتم بصعوبة كبيرة ويؤدي إلى تمزق أجنحتها. وعندما تدخل الحشرة إلى المجموعة التي تشتمل على الازهار الذكرية والأنثوية، تضع الحشرة الانثى بيضها ثم تموت، ثم ينقف البيض وتتزاوج الشفافير الصغيرة الناتجة، ولا يستطيع ان يخرج منها سوى الاناث، أما الذكور فتموت، وقبل ان تخرج الاناث تلتصق هبوات اللقح بأجسامها فتحملها إلى مجموعات جديدة من الأزهار. فاذا كانت المجموعة الجديدة تشتمل على أزهار ذكور وأخرى اناث، فان العملية تتكرر بالصورة السابقة، اما اذا اشتملت المجموعة على أزهار اناث فقط، فان الفراشة تموت دون ان تضع البيض. ففي هذه الحالة تكون الأزهار الإناث على درجة من الطول بحيث لا تستطيع ان تصل الحشرة إلى قاعدتها لكي تضع البيض هنالك، وعندما تحاول الحشرة ان تصل إلى هذه القاعدة العميقة دون جدوى تلقح الأزهار بما تحمله من هبوات اللقح، ثم تنضح الأزهار وتكون ثمار التين. وعندما ادخل التين إلى الولايات المتحدة لأول مرة لم يكن ينتج ثمارا، ولم يمكن انتاج الثمار وقيام صناعة التين الا بعد ان جلبت الشفافير إلى الولايات المتحدة.
وهنالك كثير من الازهار التي تسجن الحشرات داخلها، ومن أمثلتها الزهرة المسماة (جاك في المقصورة) jack - in - the - pulpit ولهذا النبات نوعان من المجموعات الزهرية، ذكور وإناث. وهي تتكون داخل مقصورات تضيق عند منتصفها. ويتم التلقيح بوساطة ذبابة دقيقة تدخال إلى المقصورة ولا تكاد تجتاز المنطقة الضيقة الوسطى حتى تجد نفسها سجينة، ليس بسبب الضيق فحسب، بل بسبب تغطية الجدران الداخلية بمادة شمعية منزلقة يتعذر معها على الحشرة ان تثبت اقدامها، وعندئذ تدور الحشرة بصورة جنونية داخل المكان، فتعلق هبوات اللقح بجسمها. وبعد قليل تتصلب جوانب المقصورة بعض الشيء فتستطيع الحشرة الخروج بعد ان يكون جسمها قد تغطى بهبوات اللقح. فاذا زارت الحشرة مقصورة مذكرة اخرى تكررت العملية السابقة، أما اذا دخلت مقصورة انثى فانها تسجن في داخلها سجنا دائما حتى تموت هي، وعند محاولتها اليائسة للخروج، تقوم بتلقيحها الأزهار الأنثى. ان النبات في هذه الحالة لا يهتم بخروج الحشرة لانها تكون قد أدت رسالتها، اما عند زيارتها للمقصورات المذكرة، فانه يسمح لها بالخروج لانها لا تكون قد أدت رسالتها بعد.
أفلا تدل كل هذه الشواهد على وجود الله؟ انه من الصعب على عقولنا ان تتصور ان كل هذا التوافق العجيب قد تم بمحض المصادفة، انه لا بد ان يكون نتيجة توجيه محكم احتاج إلى قدرة وتدبير.
ونستطيع ان نلمح ادلة أخرى على وجود الله وقدرته في تلك الحالات العديدة التي حاول الانسان فيها ان يتدخل في توازن الطبيعة او يعمل على تعديله.
فمثلا عندما نزل المهاجرون الأولون أستراليا، لم يكن هنالك من الثدييات المشيمية الا الدنجو، وهو كلب بري. ولما كان هؤلاء المهاجرون قد نزحوا من أوربا، فقد تذكروا ما كان يهيئه لهم صيد الارانب من فرصة طيبة لممارسة الصيد والرياضة. وفي محاولة لتحسين الطبيعة في أستراليا استورد توماس اوستين نحو اثني عشر زوجا من الأرانب وأطلقها هنالك، وكان ذلك في نسة 1859. ولم يكن لهذه الأرانب اعداء طبيعيون في أستراليا ولذلك فقد تكاثرت بصورة مذهلة، وزاد عددها زيادة كبيرة فوق ما كان ينتظر، وكانت النتيجة سيئة للغاية.
فقد احدثت الأرانب اضرارا بالغة بتلك البلاد حيث قضت على الحشائش والمراعي التي ترعاها الأغنام. وقد بذلت محاولات عديدة للسيطرة على الأرانب، وبنيت أسوار عبر القارة في كوينزلاند بلغ امتدادها 7000 ميل، ومع ذلك تثبت عدم فائدتها. فقد استطاعت الأرانب ان تتخطاها. ثم استخدم نوع من الطعم السام، ولكن هذه المحاولة باءت هي الأخرى بالفشل. ولم يمكن الوصول إلى حل الا في السنوات الأخيرة، وكان ذلك باستخدام فيروس خاص يسبب مرضا قتالا لهذه الأرانب هو مرض الحرض المخاطي. وقد لا يكون هذا هو الحل الاخير، فقد اخذنا نسمع أخيرا عن ظهور ارانب حصينة لديها مقاومة كبيرة لهذا المرض في أستراليا. ومع ذلك فقد أدى انخفاض عدد الأرانب هنالك إلى منافع جمة، وتحولت مناطق البراري القاحلة والجبال المقفرة التي بقيت مجدبة عشرات السنين إلى مروج خضر يانعة. وقد ترتب على ذلك زيادة في الايراد من صناعة الأغنام وحدها قدرت في سنة 1952 - سنة 1953 بما يبلغ 84 مليون جنية.
ومن الممكن ان يكون لدينا أرانب مشابهة في الولايات المتحدة الاميركية، فالأرانب الاوروبية تختلف في نوعها عن الأرانب التي كانت تستوطن أمريكا، والتي لا تعرف الان الا في جزيرة سان جوان حيث تعيش في عزلة تامة منذ سنة 1900. وقد حاول اصحاب بعض نوادي الصيد - بحسن نية طبعاً - ان يعمموا نوع الأرانب المسمى سان جوان في الولايات المتحدة كلها بسبب صعوبة استيراد النوع المسمى ذيل القطن (cottontail) وانتقاله من ولاية إلى اخرى كما كانت الحال من قبل. وكان من الممكن ان تصبح النتيجة خطيرة للغاية لان أرانب السان جوان تتكاثر في الولايات المتحدة بنفس السرعة التي تتكاثر بها الأرانب في أستراليا. ومن الاحتياطات الحديثة التي اتخذت لتلافي ذلك الخطر رفع الحظر عن صيد هذا النوع من الأرانب على مدار السنة.
ومن الطريف ان استخدام فيروس الارانب في أوربا قد أحدث اثره هنالك. فقد أحضر طبيب فرنسي من المهتمين بالموضوع - بسبب ما أحدثته الأرانب من الأضرار للأشجار في حديقته - بعض هذا الفيروس وحقن به بعض الأرانب البرية التي اصطادها، ثم أطلقها بعد ذلك. وقد ترتب على ذلك انخفاض عدد الارانب في فرنسا، بل الاقاليم الاوروبية المجاورة ايضا. ويتجادل الناس حول هذا الموضوع فتختلف وجهات نظرهم. فمنهم من يرى ان العمل قد ادى إلى خفض كمية اللحوم التي كانت تعيش عليها الطبقات الفقيرة. ومنهم من يرى أن هذا العجز يعوضه تحسين الانتاج النباتي بعد انخفاض عدد الأرانب.
لقد تحدثنا فيما قبل عن الأدلة على وجود الله. اما الأمثلة الأخيرة التي ذكرناها فانها تشهد بحكمته وتدبيره. فالتوازن الذي خلقه الله في سائر مظاهر الطبيعة يعتر من النوع الدقيق. وقد تؤدي اية محاولة للتدخل فيه إلى أضرار باللغة، ولذلك ينبغي ان يتريث الناس قبل ان يقدموا على أية محاولة لتعديل موازين الطبيعة، فذكاء الانسان أقل من ان يحيط بحكمة الخالق.
الله يتجلى في عصر العلم