كتبها: فرانك ألن
عالم الطبيعة البيولوجية
ماجستير ودكتوراه من جامعة كورنل - أستاذ الطبيعة الحيوية بجامعة مانيتويا بكندا من سنة 1904 إلى سنة 1944- اخصائي في أبصار الألوان والبصريات الفسيولوجية وإنتاج الهواء السائل، وحائز على وسام توري الذهبي للجمعية الملكية بكندا.
كثيرا ما يقال ان هذا الكون المادي لا يحتاج إلى خالق، ولكننا اذا سلمنا بان هذا الكون موجود فكيف نفسر وجوده ونشأته؟ هنالك اربعة احتمالات للاجابة عن هذا السؤال: فاما ان يكون هذا الكون مجرد وهم وخيال، وهو ما يتعارض مع القضية التي سلمنا بها حول وجوده، واما ان يكون هذا الكون قد نشأ من تلقاء نفسه من العدم، واما ان يكون أبديا ليس لنشأته بداية، واما ان يكون له خالق.
اما الاحتمال الاول فلا يقيم أمامنا مشكلة سوى مشكلة الشعور والاحساس، فهو يعني ان احساسنا بهذا الكون وإدراكنا لما يحدث فيه لا يعدو ان يكون وهما من الأوهام ليس له ظل من الحقيقة. وقد عاد إلى هذا الرأي في العلوم الطبيعية أخيراً سير جيمس جيبز الذي يرى ان هذا الكون ليس له وجود فعلي، وانه مجرد صورة في أذهاننا. وتبا لهذا الرأي نستطيع ان نقول اننا نعيش في عالم من الاوهام، فمثلا هذه القطارات التي نركبها ونلمسها ليست إلا خيالات، وبها ركاب وهميون وتعبر انهارا لا وجود لها وتسير فوق جسور غير مادية.. الخ، وهو رأي وهمي لا يحتاج إلى مناقشة أو جدال.
اما الرأي الثاني، القائل ان هذا العالم بما فيه من مادة وطاقة قد نشأ هكذا وحده من العدم، فهو لا يقل عن سابقه سخفا وحماقة، ولا يستحق هو ايضا ان يكون موضعا للنظر أو المناقشة.
والرأي الثالث الذي يذهب إلى أن هذا الكون أزلي ليس لنشأته بداية إنما يشترك مع الرأي الذي ينادي بوجود خالق لهذا الكون، وذلك في عنصر واحد هو الازلية. واذا فنحن إما أن نسبب صفة الأزلية إلى عالم ميت، وإما ان ننسبها إلى إله حي يخلق. وليس هنالك صعوبة فكرة في الأخذ باحد هذين الاحتمالين أكثر مما في الاخر، ولكن قوانين الديناميكا الحرارية تدل على ان مكونات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجيا وانها سائرة حتما إلى يوم تصير فيه جميع الاجسام تحت درجة من الحرارة بالغلة الانخفاض هي الصفر المطلق، ويومئذ تنعدم الطاقة، وتستحيل الحياة. ولا مناص من حدوث هذه الحالة من انعدام الطاقات عندما تصل درجة حرارة الاجسام إلى الصفر المطلق بمضي الوقت. أما الشمس المستعرة والنجوم المتوهجة والأرض الغنية بأنواع الحياة، فكلها دليل واضح على ان اصل الكون ان أساسه يرتبط بزمان بدأ من لحظة معينة، فهو اذا حدث من الأحداث. ومعنى ذلك انه لابد لاصل الكون من خالق أزلي ليس له بداية، عليم محيط بكل شيء، قوي ليس لقدرته حدود، ولابد ان يكون هذا من صنع يديه.
ان ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صورا عديدة لا يمكن تفسيرها على اساس المصادفة أو العشوائية. فالأرض كرة معلقة في الفضاء تدور حول نفسها، فيكون في ذلك تتابع الليل والنهار، وهي تسبح حول الشمس مرة في كل عام، فيكون في ذلك تتابع الفصول، الذي يؤدي بدوره إلى زيادة مساحة الجزيء الصالح للسكنى من سطح كوكبنا ويزيد من اختلاف الانواع النباتية أكثر مما لو كانت الأرض ساكنة. ويحيط بالأرض غلاف غازي يشتمل على الغازات اللازمة للحياة ويمتد حولها إلى ارتفاع كبير (يزيد على 500 ميل) .
ويبلغ هذا الغلاف الغازي من الكشافة درجة تحول دون وصول ملايين الشهب القاتلة ميلا الينا، منقضة بسرعة ثلاثين ميلا في الثانية، والغلاف الذي يحيط بالأرض يحفظ درجة حرارتها في الحدود المناسبة للحياة، ويحمل بخار الماء من المحيطات إلى مسافات بعيدة داخل القارات، حيث يمكن ان يتكاثف مطرا يحيي الأرض بعد موتها، والمطر مصدر الماء العذب، ولولاء لاصبحت الأرض صحراء جرداء خالية من كل أثر للحياة. ومن هنا نرى ان الجو والمحيطات الموجودة على سطح الأرض نمثل عجلة التوازن في الطبيعة.
ويمتاز الماء بأربع خواص هامة تعمل على صيانة الحياة في المحيطات والبحيرات والأنهار، وخاصة حيثما يكون الشتاء قارسا وطويلا، فالماء يمتص كميات كبيرة من الأوكسجين عندما تكون درجة حرارته منخفضة. وتبلغ كثافة الماء أقصاها في درجة اربعة مئوية. والثلج أقل كثافة من الماء مما يجعل الجليد المتكون في البحيرات والأنهار يطفو على سطح الماء لخفته النسبية، فيهيئ بذلك الفرصة لاستمرار حياة الكائنات التي تعيش في الماء في المناطق الباردة. وعندما يتجمد الماء تنطلق منه كميات كبيرة من الحرارة تساعد على صيانة حياة الاحياء التي تعيش في البحار.
أما الأرض اليابسة فهي بيئة ثابتة لحياة كثير من الكائنات الأرضية، فالتربة تحتوي العناصر التي يمتصها النبات ويمثلها ويحولها إلى انواع مختلفة من الطعام يفتقر اليها الحيوان. ويوجد كثير من المعادن قريبا من سطح الارض، مما هيأ السبيل لقيام الحضارة الراهنة ونشأة كثير من الصناعات والفنون. وعلى ذلك فان الأرض مهيأة على أحسن صورة للحياة. ولا شك ان كل هذا من تيسير حكيم خبير، وليس من المعقول ان يكون مجرد مصادفة أو خبط عشواء. ولقد كان أشعياء على حق عندما قال مشيراً إلى الله: (لم يخلقها باطلاً، للسكن صورها) (45: 18) .
وكثيرا ما يسخر البعض من صغر حجم الأرض بالنسبة لما حولها من فراغ لا نهائي.
ولو أن الأرض كانت صغيرة كالقمر، أو حتى لو ان قطرها كان ربع قطرها الحالي لعجزت عن احتفاظها بالغلافين الجوي والمائي اللذين يحيطان بها، ولصارت درجة الحرارة فيها بالغة حد الموت. اما لو كان قطر الأرض ضعف قطرها الحالي لتضاعفت مساحة سطحها أربعة أضعفا واصبحت جاذبيتها للاجسام ضعف ما هي عليه، وانخفض تبعا لذلك ارتفاع غلافها الهوائي، وزاد الضغط الجوي من كيلو غرام واحد إلى كيلو غرامين على السنتيمتر المربع، ويؤثر كل ذلك أبلغ الاثر في الحياة على سطح الأرض، فتتسع مساحة المناطق الباردة اتساعا كبيراً، وتنقص مساحة الأراضي الصالحة للسكنى نقصا ذريعاً، وبذلك تعيش الجماعات الانسانية منفصلة أو في أماكن متنائية، فتزداد العزلة بينها ويتعذر السفر والاتصال، بل قد يصير ضربا من ضروب الخيال.
ولو كانت الأرض في حجم الشمس مع احتفاظها بكثافتها لتضاعفت جاذبيتها للاجسام التي عليها 150 ضعفا، ولنقص ارتفاع الغلاف الجوي إلى اربعة أميال، ولاصبح تبخر الماء مستحيلا، ولارتفع الضغط الجوي إلى ما يزيد على 150 كيلو غراماً على السنتيمتر المربع، ولوصل وزن الحيوان الذي يزن حالياً رطلا واحدا إلى 150 رطلا، ولتضاءل حجم الانسان حتى صار في حجم ابن عرس أو السنجاب، ولتعذرت الحياة الفكرية لمثل هذه المخلوقات.
ولو ازيحت الارض إلى ضعف بعدها الحالي عن الشمس، لنقصت كمية الحرارة التي تتلقاها من الشمس إلى ربع كميتها الحالية، وقطعت الأرض دورتها حول الشمس في وقت اطول، وتضاعفت تبعاً لذلك طول فصل الشتاء، وتجمدت الكائنات الحية على سطح الأرض. ولو نقصت المسافة بين الأرض والشمس إلى نصف ما هي عليها الآن لبلغت الحرارة التي تتلقاها الأرض أربعة أمثال، وتضاعفت سرعتها المدارية حول الشمس، ولآلت الفصول إلى نصف طولها الحالي اذا كانت هناك فصول مطلقا، ولصارت الحياة على سطح الأرض غير ممكنة.
وعلى ذلك فان الارض بحجمها وبعدها الحاليين عن الشمس وسرعتها في مدارها، تهيئ للإنسان أسباب الحياة والاستمتاع بها في صورها المادية والفكرية والروحية على النحو الذي نشاهده اليوم في حياتنا.
فاذا لم تكن الحياة قد نشأت بحكمة وتصميم سابق فلا بد ان تكون قد نشأت عن طريق المصادفة. فما هي تلك المصادفة اذن حتى نتدبرها ونرى كيف تخلق الحياة؟
ان نظريات المصادفة والاحتمال لها الان من الأسس الرياضية السليمة ما يجعلها تطبق على نطاق واسع حيثما انعدم الحكم الصحيح المطلق، وتضع هذه النظريات امامنا الحكم الاقرب إلى الصواب مع تقدير احتمال الخطأ في هذا الحكم.. ولقد تقدمت دراسة نظرية المصادفة والاحتمال من الوجهة الرياضية تقدما كبيرا حتى أصبحنا قادرين على التنبؤ بحدوث بعض الظواهر التي نقول انها تحدث بالمصادفة والتي لا نستطيع ان نفسر ظهورها بطريقة اخرى (مثل قذف الزهر في لعبة النرد) . وقد صرنا بفضل تقدم هذه الدراسات قادرين على التمييز بين ما يمكن ان يحدث بطريق المصادفة، وما يستحيل حدوثه بهذه الطريقة، وان نحسب احتمال حدوث ظاهرة من الظواهر في مدى معين من الزمان، ولننظر الان إلى الذي تستطيع ان تلعبه المصادفة في نشأة الحياة:
ان البروتينات من المركبات الأساسية في جميع الخلايا الحية. وهي تتكون من خمسة عناصر هي: الكربون، والايدروجين، والنيتروجين، والأوكسجين، والكبريت. ويبلغ عدد الذرات في الجزيء البروتيني، الواحد 40000 ذرة. ولما كان عدد العناصر الكيماوية في الطبيعة 92 عنصرا موزعه كلها توزيعا عشوائياً، فان احتمال اجتماع هذه العناصر الخمسة لكي تكون جزئيا من جزئيات البروتين يمكن حسابه لمعرفة كمية المادة التي ينبغي ان تخلط خلطا مستمرا لكي تؤلف هذا الجزء، ثم لمعرفة طول الفترة الزمنية اللازمة لكي يحدث هذا الاجتماع بين ذرات الجزيء الواحد.
وقد قام العالم الرياضي السويسري تشارلز يوجين جاي بحساب هذه العوامل جميعا فوجد ان الفرصة لا تتهيأ عن طريق المصادفة لتكوين جزيء بروتيني واحد الا بنسبة 1 إلى 10160، اي بنسبة 1 إلى رقم عشرة مضروبا في نفسه 160 مرة. وهو رقم لا يمكن النطق به أو التعبير عنه بكلمات. وينبغي ان تكون كمية المادة التي تلزم لحدوث هذا التفاعل بالمصادفة بحيث ينتج جزيء واحد اكثر مما يتسع له كل هذا الكون بملايين المرات. ويتطلب تكوين هذا الجزيء على سطح الأرض وحدها عن طريق المصادفة بلايين لا تحصي من السنوات قدرها العالم السويسري بانها عشرة مضروبة في نفسها 243 مرة من السنين (24310 سنة) .
ان البروتينات تتكون من سلاسل طويلة من الأحماض الأمنية. فكيف تتألف ذرات هذه الجزئيات؟ انها اذا تآلفت بطريقة اخرى غير التي تتآلف بها، تصير غير صالحة للحياة، بل تصير في بعض الاحيان سموما، وقد حسب العالم الانجليزي ج. ب. ليثز J. B. Leathes الطرق التي يمكن ان تتألف بها الذرات في احد الجزئيات البسيطة من البروتينات فوجد ان عددها يبلغ البلايين (4810) . وعلى ذلك فانه من المحال عقلا أن تتآلف كل هذه المصادفات لكي تبني جزيئا بروتينيا واحداً.
ولكن البروتينات ليست الا مواد كيماوية عديمة الحياة، ولا تدب فيها الحياة الا عندما يحل فيها ذلك السر العجيب الذي لا ندري من كنهه شيئا. انه العقل اللانهائي، وهو الله وحده، الذي استطاع ان يدرك ببالغ حكمته ان مثل ذلك الجزيء البروتيني يصلح لان يكون مستقرا للحياة فبناه وصوره وأغدق عليه سر الحياة.
الله يتجلى في عصر العلم