روى الإمام مسلم، عن قَبيصة بن المُخارق الهلالي رضي الله عنه، قال: تحمَّلتُ حَمَالة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسأله فيها. فقال: "أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها". ثم قال: "يا قَبيصة، إن المسألة لا تحلُّ إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمَّل حَمَالة فحلَّت له المسألة حتى يصيبَها ثم يمسك - أي يكف عن السؤال- ورجل اجتاحت مالَه جائحة، فحلَّت له المسألة حتى يصيبَ قِوامًا من عيش - أو قال: سدادًا من عيش - ورجل أصابته فاقةٌ حتى يقولَ ثلاثةٌ من ذوي الحِجى من قومه: قد أصابت فلانًا فاقةٌ، فحلت له المسألة حتى يصيبَ قِوامًا من عيش - أو قال: سدادًا من عيش- فما سواهن - يا قَبيصة - من المسألة فسُحت يأكلها صاحبها"[1]. (صدق رسول الله).
أيها الإخوة: في هذا الحديث، يحدِّثنا هذا الصحابي –قَبيصة بن المُخارق- وقد كان من أهل البادية ... جاء إلي النبي صلى الله عليه وسلم، يسأله أن يعينه في حَمَالة تحمَّلها ...
والحَمَالة: ما يلتزمه الرجل في ذمته ليدفعه في إصلاح ذات البين.
كان هناك ناس من أصحاب القلوب الكبيرة، عرفهم المجتمع العربي والإسلامي، إذا وجدوا قبيلتين أو أسرتين بينهما نزاع وخصام وثارات ... وبينهما التزامات مالية، تقف عائقًا في سبيل الإصلاح، يأتي هؤلاء الرجال الكبار ويلتزمون هذه على كواهلهم ...
وجاء الإسلام، وجعل لهؤلاء حقوقا في مصارف الزكاة، في سهم الغارمين...
جاء هذا الرجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، أن يعينه فيما التزمه، وفيما تحمله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أقم ... حتى تأتينا الصدقة"، أي الزكاة، تسمى صدقة في عُرف القرآن والسنة ... وليس كما يظن بعض الناس.
ثم أراد النبي صلى الله عليه وسلم، أن يعلمه درسًا ... فعلَّمه أن المسألة لا تحل إلا في مواطن معينة ... أي سؤال الغير ... حتى ولو كان هذا الغير هو ولي الأمر.
إن الأصل في المسألة التحريم؛ لأن الأصل: أن المسلم لا يسأل أحدًا إلا الله، "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله"[2]، ولكن عند الضرورة ... أو عند الحاجة ... فلا بد أن يسأل.
متى نسأل؟
هنا حدَّد النبي صلى الله عليه وسلم، لقَبيصة، ولكل مسلم مَن بعده مواطن السؤال: أن يتحمل الإنسان حَمَالة، مثل قبيصة ... من أجل مصلحة اجتماعية ... من أجل إصلاح ذات البين ... أو من أجل أي مشروع اجتماعي خيري، عزم فيه.
إن الذي يفعل هذا الخير لا بد أن يعان ... المجتمع المسلم يعرف لأهل الخير خيرهم، ولأهل المعروف معروفهم، ولهذا أباح النبي صلى الله عليه وسلم، لمثل هذا أن يسأل ولي الأمر ... والقادرين في المجتمع ... الجماعات ... والأفراد ... حتى يصيب حَمَالته ثم يُمسك، أي يكفَّ عن السؤال، ولا يأخذ أكثر من ذلك، لأنه لا يسأل لفقر، وإنما يسأل لسداد دَين. هذه واحدة.
الثانية: الموطن الثاني الذي تباح فيه المسألة: هو أن يصيب الإنسان جائحة تجتاح ماله.
هنا يحلُّ له أن يسأل حتى يصيب قِوامًا من عيش. ما أكثر الكوارث والمصائب التي تنزل بالناس، ما أكثر ضربات الدهر.
كم من الناس تنزل به هذه الضربات فيُفلس بعد أن كان تاجرًا، ويفتقر بعد أن كان غنيًا، ويذلَّ بعد أن كان عزيزًا.
فهل يُترك هذا الإنسان؟ غني قوم افتقر، وعزيز قوم ذل؟ لا ... إن الإسلام يُبيح له أن يسأل، ويجعل له حظًا في مصارف الزكاة، في سهم الغارمين.
في مثل هذه الأحوال يقول الإمام مجاهد التابعي المُفسِّر الفقيه: ثلاثة من الغارمين: رجل ذهب السيل بماله، ورجل أصابه حريق فذهب بماله، ورجل له عيال وليس له مال، فهو يدَّان وينفق على عياله [3] .
الزكاة والتأمين الاجتماعي
وقد رأينا الحديث الذي معنا يجعل هذا الصنف -الذي اجتاحت ماله جائحة- يجعل له حق السؤال من الزكاة، حتي يصيب قِوامًا من عيش.
والزكاة بهذا تقوم بنوع رفيع من التأمين الاجتماعي ضد الكوارث ومفاجآت الحياة ... سبق كل ما عرَفه العالم من أنواع التأمين، غير أن التأمين الذي حققه الإسلام لأبنائه بنظام الزكاة، أسمى وأكمل وأشمل من التأمين الذي عرَفه الغرب في العصر الحديث بمراحل ومراحل.
فالتأمين على الطريقة الغربية لا يعوِّض إلا مَن اشترك بالفعل في دفع أقساط محدودة لشركة التأمين ... وعند إعطاء التعويض يُعطى الشخص المنكوب على أساس المبلغ الذي أمَّن به، وعلى أساس خسائره وحاجاته.
فمن كان قد أمَّن بمبلغ أكبر أعطى تعويضًا أكثر، ومن كان مبلغه أقل كان نصيبه أقل، مهما عظُمت مصيبته وكثُرت حاجته، وذوي الدفع المحدود يُؤمِّنون عادة بمبالغ أقل، فيكون حظهم إذا أصابتهم الكوارث أقل أيضًا وأدنى.
وذلك أن أساس نظام التأمين الغربي: التجارة والكسب من وراء الأشخاص المُؤمَّن عليهم.
أما التأمين الإسلامي الذي تُحقِّقه الزكاة، لا يقوم على اشتراط دفع أقساط سابقة، ولا يُعطى المصاب بالجائحة إلا على أساس حاجته.
هذا ما جاء به الإسلام
فالإسلام وقف من الغارمين موقفًا فريدًا رائعًا ...
أولاً: يعلم أبناءه الاعتدال والاقتصاد في حياتهم، حتى لا يلجأ إلي الاستدانة، وإذا اضطرت المسلم ظروف الاستدانة، كان عليه أن يعقد العزم على التعجيل بالوفاء والأداء، فيكسب بذلك معونة الله وتأييده فيما نوى، "مَن أخذ أموال الناس يريد أدائها أدَّي الله عنه، ومَن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله" [4].
وليس الدَّين خطرًا على نفسية المُستدين واطمئنانه فحسب، بل هو خطر على أخلاقه وسلوكه كما جاء في الحديث: "إن الرجل إذا غرم -أي استدان- حدَّث فكذب، ووعد فأخلف"[5].
وهي لفته نبوية صادقة إلي أثر الحالة الاقتصادية في الأخلاق والسلوك، وهو ما لا نُنكره وإنما نُنكر على القائلين به جعلهم الاقتصاد هو العامل الوحيد والمؤثر الفذ في سلوك الإنسان.
وكان من الوسائل التي اتَّخذها النبي صلى الله عليه وسلم، في تنفير أصحابه من الدَّين أنه لم يكن يُصلي علي مَن مات من أصحابه وعليه دَين[6] .
إن الإسلام بسداده هذه الديون العادلة عن أصحابها من مال الزكاة، قد حقَّق هدفين كبيرين:
الأول: يتعلق بالمدين الذي أثقله الدَّين وركبه من أجله همُّ الليل وذُل النهار، وأصبح مُعرضًا بسببه للمطالبة والقضاء والحبس ... فالإسلام يُسدِّد دَينه ويكفيه لما أهمَّه.
والثاني: يتعلق بالدائن الذي أقرض صاحب الدَّين، وأعانه على مصلحته... فالإسلام حين يساعد على الوفاء بدَينه يُشجع أبناء المجتمع على الأخلاق والمروءة والتعاون والقرض الحسن.
وبهذا تُسهم الزكاة من هذا الجانب في مُحاربة الربا، وهكذا تأخذ شريعة الإسلام بيد الغارم المجهود، ولا تُكلِّفه بيع حوائجه الأصلية لسداد ما عليه، ويعيش محرومًا من المُقومات الأساية للحياة ...
كلا.. فقد كتب عمر بن عبد العزيز في خلافته إلي ولاته: أن اقضوا عن الغارمين. فكتب إليه من الولاة مَن يقول: إنا نجد الرجل له المسكن والخادم والفرس والأثاث وهو مع ذلك غارم . فكتب عمر: إنه لا بد للمرء المسلم من مسكن يسكنه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يُجاهد عليه عدوه، ومن أن يكون له الأثاث في بيته ... نعم اقضوا عن مثل هذا فإنه غارم.
هذا ما جاءت به شريعة الله، شريعة العدل والرحمة منذ أربعة عشر قرنًا، فأين ما جاءت به القوانين الوضعية، قوانين الحضارة والمدنية الحديثة، من اضطِّرار التُّجار المَدِينين ونحوهم إلي إعلان إفلاسهم، وتصفية تجاراتهم وخراب بيوتهم.
ثم أين من هذا ما كان عليه القانون الروماني الذي كان يُسمى قانون الألواح الإثنى عشر: إن المدين إذا عجز عن دفع ديونه يحكم عليه بالرق إن كان حُرا، ويُحكم عليه بالحبس أو بالقتل إن كان رقيقا.
هذا أيها الإخوة ما جاء به الإسلام، يُعين الغارمين في سبيل الله، ويُعين كل مَن أصابته فاقة حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحِجى من قومه: أن فلانا قد أصابته فاقة.
هذا هو الإسلام ... وهذا هو شرع الله ... {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
والسلام عليكم -أيها الإخوة - ورحمة الله وبركاته
د.يوسف القرضاوي
----------------------------
[1]- رواه مسلم في الزكاة (1044)، وأحمد في المسند (20601)، وأبو داود في الزكاة (1640)، والنسائي في الزكاة (2579)، عن قبيصة بن المخارق.
[2]- سبق تخريجه.
[3]- رواه ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الزكاة (2/424).
[4]- رواه البخاري في الاستقراض (2387)، وأحمد في المسند (8733)، وابن ماجه في الصدقات (241)، عن أبي هريرة.
[5]- متفق عليه: رواه البخاري في الأذان (832)، ومسلم في المساجد (589)، وأحمد في المسند (24578)، وأبو داود في الصلاة (880)، والنسائي في السهو (1309)، عن عائشة.
[6]- أتي النبي صلى الله عليه وسلم، بجنازة ليصلي عليها فقال: "هل عليه من دين؟". قالوا: لا. فصلى عليه، ثم أتي بجنازة أخرى فقال: "هل عليه من دين؟". قالوا: نعم. قال: "صلوا على صاحبكم". قال أبو قتادة: عليَّ دينه يا رسول الله. فصلى عليه. رواه البخاري في الكفالة (2295)، وأحمد في المسند (16510)، والنسائي في الجنائز (1961)، عن سلمة بن الأكوع.