إذا أردت أن تعيش في زمن الفتوحات الإسلامية وأن تتخيل الصحابي الجليل عمرو بن العاص وهو يفتح مصر ويطهرها من فلول الرومان.. وإذا أردت أن تصلي في مسجد حدد قبلته ثمانون صحابيًّا، فما عليك إلا أن تقصد القاهرة ، وتصلي في مسجد الصحابي عمرو بن العاص، أول جامع وجامعة إسلامية في مصر والقارة الإفريقية بأسرها.. وستعيش بين باحته أجواء العصور الأولى في دولة الإسلام.
لا يمكن لأي متابع أو مؤرخ للفتح الإسلامي لمصر عام 20 هجرية- 641 ميلادية إلا أن يتوقف عند هذا المسجد العتيق الذي شرع ابن العاص في بنائه بتوجيه من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" ، وظل على مساحته الأولى حتى العام 51 هـ- 672م بعدها شهد توسعات من خلال حكام مصر الذين تعاقبوا على حكم مصر الإسلامية، حتى وصلت مساحته إلى 24 ألف ذراع معمارية، أما مساحته الحالية فهي 120.50 × 112.50 مترًا.
ومثلما شهد المسجد توسعات وتحسينات متتالية تعرض أيضًا لحريقين كبيرين، شب الأول عام 275 هجرية- 888 ميلادية، وقام خمارويه بن أحمد بن طولون بإعادة بنائه إلى ما كان عليه، أما الحريق الثاني فشب عام 564 هجرية- 1168 ميلادية، وذلك إثر احتراق مدينة الفسطاط في عهد آخر الخلفاء الفاطميين، لكن إحدى الروايات تقول إن الوزير شاور خاف من احتلال الصليبيين للفسطاط فأشعل فيها النار بعد أن عجز عن الدفاع عنها، وعلى إثر ذلك تهدم المسجد، بعدها قام صلاح الدين الأيوبي بضم مصر إلى دولته، وأمر بإعادة إعمار المسجد من جديد خلال عام 568 هجرية.
تكوَّن التخطيط الأصلي للجامع عند بنائه من مساحة مستطيلة وأرضية مفروشة بالحصباء، وكان سقفه مغطى بسعف النخيل فوق ساريات من جذوع النخيل المغطى بالطين، لم يكن له صحن ولا محراب مجوف ولا مئذنة، بل منبر فقط، وقد بنيت جدران الجامع الخارجية من الطوب اللبن، وكانت خالية من الزخارف، وله ستة أبواب في جدرانه ما عدا جدار القبلة، أما ارتفاعه من الداخل فكان نحو ثلاثة أمتار كما المسجد النبوي.
وقد بنى عمرو بن العاص لنفسه دارًا في الجانب الشرقي من المسجد أطلق عليها دار عمرو الكبرى، كان يجاورها من الشمال دار لابنه عبدالله سميت بدار عمرو الصغرى، ثم بنيت دار ثالثة للصحابي الزبير بن العوام.
أما التخطيط الحالي للمسجد فيتكون من مدخل رئيس بارز يقع في الجهة الغربية، ويتكون من صحن كبير مكشوف تحيط به أربعة أروقة ذات سقوف خشبية بسيطة، أكبر هذه الأروقة هو رواق القبلة، ويتكون من إحدى وعشرين بائكة على جدار القبلة، تتكون كل بائكة من ستة عقود مدببة مرتكزة على أعمدة رخامية، وبصدر رواق القبلة محرابان مجوفان يجاور كلا منهما منبر خشبي، كما يوجد بجدار القبلة لوحتان ترجعان إلى عصر مراد بك.
وفي الركن الشمالي الشرقي لرواق القبلة قبة يقال إن تاريخها يرجع إلى عبدالله بن عمرو بن العاص، أما صحن الجامع فتتوسطه قبة قائمة على ثمانية أعمدة رخامية ذات تيجان مختلفة جلبت من عمائر قديمة، ويتوج واجهات المسجد من الخارج شرفات هرمية مسننة، وله مئذنة يرجع تاريخها إلى عصر مراد بك تتكون من دورة واحدة ذات قيمة مخروطية، وعلى الرغم من التجديدات العديدة التي تمت له في العصور القديمة والحديثة مازال المسجد قبلة للمصلين، ومازال مكانه يحتفظ بعبق الماضي.
عطاء بلا حدود
منذ إنشائه وحتى يومنا هذا، لم يقتصر نشاط جامع عمرو على الصلاة فقط، إنما كان محكمة لفض النزاعات الدينية والاجتماعية التي تنشب من آن إلى آخر سواء بين المسلمين، أو بين المسلمين وبعض أصحاب الديانات الأخرى، كما كان فيه بيت للمال مخصص للإنفاق على اليتامى وذوي الاحتياجات الخاصة، فضلا عن ذلك كان مدرسة لمختلف أنواع العلوم لاسيما الدينية منها، وفي العصر الحديث تواصل الدور الإشعاعي للجامع، فمع كونه ساحة رئيسة لصلاة التراويح في رمضان من كل عام، حيث يفوح عبير الماضي حول المسجد وداخله، ويمتد إلى حدود الكنيسة المعلقة والمعبد اليهودي الواقعين بالقرب منه، وأطلق على هذا المكان «مجمع الأديان» في حي مصر القديمة، فلذلك تحس أن لصلاة التراويح بالمسجد إحساسًا مختلفًا، ويحرص المسلمون على الصلاة فيه راضين بأقل مساحة تسمح لهم بالوقوف للصلاة.
أيضًا يتبنى الجامع فصول تقوية مجانية، وفيه مكتبة عامرة بعديد من الكتب والمراجع الدينية، فضلًا عن أنشطة اجتماعية أخرى من خلال المقرأة ولجنة الزكاة، ودروس العلماء مثل الدكتور إسماعيل الدفتار خطيب الجامع وعديد من الشيوخ الآخرين.
كبار العلماء
كما شهد المسجد حلقات دروس لكبار علماء المسلمين، منهم الإمام الشافعي، والإمام الليث بن سعد، والعز بن عبدالسلام البوابة العريضة التي دخل منها المصريون وكثير من العرب والعجم إلى الإسلام، حيث جاهد الأئمة والدعاة لنشر الإسلام وتعريب لسان أهل مصر، وكان أشهر من اعتلى منبره في العصر الحديث الداعية الإسلامي الراحل الشيخ محمد الغزالي والشيخ سيد سابق والدكتور عبدالصبور شاهين، رحمهم الله، كما اكتسب الشيخ الشاب محمد جبريل شهرته العريضة من خلال إمامته لصلاة القيام، لاسيما في العشر الأواخر من رمضان منذ أكثر من عشرة أعوام متتابعة.
أهمية كبيرة
ولا تتوقف أهمية المسجد على كونه أول مسجد بني في مصر وإفريقية كلها، إنما من اهتمام الخليفة عمر بن الخطاب أمير المؤمنين الذي كان مدركًا لأهمية هذا المسجد وضرورته في حياة المسلمين الأفارقة، مما دعا إلى اهتمام كل المسلمين في مصر والدول العربية به، ويذكر عن يزيد بن حبيب أنه اشترك في تحديد قبلة المسجد نحو 80 من صحابة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ، كلهم ممن شاركوا في فتح مصر، منهم الزبير بن العوام، وعبادة بن الصامت، وعقبة بن عامر، ورافع بن مالك، وسعد بن أبي وقاص، وربيعة بن شرحبيل، وآخرون رضوان الله عليهم جميعًا، وكان هذا المسجد رابع مسجد أقيم في الإسلام، بعد مساجد المدينة، والبصرة، الكوفة.
وهناك جدل حول وجود قبر الصحابي عبدالله بن عمرو بن العاص "رضي الله عنه" فيه، وهذا غير مؤكد ولم يوثق، خاصة في ظل اختلاف المؤرخين حول مكان دفنه وحتى في سنة وفاته، حيث لم يرد ذكر القبر في أقوال المؤرخين والرحالة في العصرين المملوكي والعثماني.
لم يقتصر نشاط الجامع على الصلاة إنما كان محكمة وملاذًا لليتامى ومدرسة لمختلف العلوم.
مجلة الوعي الإسلامي الكويتية