يتفق علماء القانون الدستوري الذين تكلموا في مصادر الدستور في الإسلام على أن القرآن الكريم هو المصدر الرئيس والأول للدستور ، وأنه جاء فيما يتعلق بالأمور الدستورية بأحكام كلية ومبادئ أساسية ، فأغلب ما ورد في القرآن الكريم من أحكام إنما هو أحكام كلية وقواعد عامة تجب مراعاتها في القضاء والاعتماد عليها في الاجتهاد ، فلم يتعرض القرآن للتفصيلات أو الجزئيات في الأحكام الشرعية المتصلة بالقوانين ؛ لاختلافها باختلاف البيئات وتغيرها بتغير المصالح ، تاركا التفصيل في الجزئيات إلى السنة النبوية، والاجتهاد وفق ما تستدعيه المصلحة.
وهذه الأحكام والقواعد الكلية الواردة في القرآن الكريم هي أحكام وقواعد فوق أحكام وقواعد الدستور ، وفق المعنى الفني للدستور ، فهي قواعد وأحكام فوق دستورية تلتزم السلطة التأسيسية التي تضع الدستور في كل دولة إسلامية باحترامها ، فالدستور قابل للتعديل والتغيير وأحكام القرآن الكريم ليست كذلك.
- الآيات الدستورية في القرآن :
قررت النصوص القرآنية مبادئ أساسية يقوم عليها كل نظام دستوري عادل وهي الشورى والعدل والمساواة, وتطرقت بعض الآيات القرآنية لأحكام دستورية معينة ، مما يعتبر من المسائل المهمة التي يرجع إليها عند وضع دستور إسلامي .
ونذكر فيما يلي بعض هذه الآيات وما قررته في المجال الدستوري :
1 - الآيات المقررة لضرورة الشورى ، مثل قوله تعالى : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } سورة آل عمران، آية 159.
2 - الآيات المقررة لمبدأ العدل ، مثل قوله تعالى : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } سورة النساء ، آية 58 .
3 - الآيات المقررة لمبدأ المساواة ، مثل قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } سورة الحجرات آية 10 .
4 - الآيات المقررة لضرورة الحكم بما أنزل الله ، مثل قوله تعالى : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } سورة المائدة آية 49 .
5 - الآيات المقررة لنظام القضاء والتقاضي بين الناس ، وأنهم سواء أمام ساحة القضاء ، مثل قوله تعالى : { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } سورة المائدة آية 8.
6 - الآيات المتضمنة أحكاما للسلم والحرب ، مثل قوله تعالى : { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } سورة الأنفال آية 61 وقوله : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } سورة التوبة آية 36 .
7 - الآيات المتضمنة حقوق الأمة على الحاكم ، مثل قوله تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } سورة التوبة ، آية 71 .
8 - الآيات المتضمنة لحقوق الحاكم على الأمة ، مثل قوله تعالى : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } سورة النساء آية 59 .
9 - الآيات المتضمنة لحق الحياة ، مثل قوله تعالى : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } سورة البقرة آية 179 .
10 - الآيات المتضمنة للالتزام بالمعاهدات والوفاء بها ، مثل قوله تعالى : { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ } سورة الأنفال , آية 72 .
- 11الآيات المتضمنة حق إبداء الرأي ، مثل قوله تعالى : { يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } سورة التوبة آية 71 وقوله تعالى : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ } . . . . ) سورة المجادلة آية 1 .
12 - الآيات المتضمنة لحق الملكية ، مثل قوله تعالى : { فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } سورة البقرة , آية 279 .
13 - الآيات المقررة لحرمة المسكن ، مثل قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } سورة النور , آية 27 .
14 - الآيات المقررة لحق التكريم للإنسان ، والذي تنفرد بذكره صراحة الشريعة الإسلامية ، مثل قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } سورة الإسراء , آية 70 .
15 - الآيات المقررة لصيانة الأموال العامة ، مثل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } سورة آل عمران, آية161.
16 - الآيات المقررة لقاعدة الولاء والبراء في الإسلام ، وهي ما تقابل في مصطلح الفقه المعاصر الخيانة العظمى مع الاختلاف في المنطلق والأساس ، وذلك مثل قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } سورة الممتحنة , آية رقم 1.
17 - الآيات المقررة لعدم المساس بأمن المحايدين ، مثل قوله تعالى : { فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا } سورة النساء ، آية 90 .
18 - الآيات المقررة لحسن الجوار ، مثل قوله تعالى : { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } سورة الممتحنة، آية 8.
19 - الآيات المقررة لرابطة الإنسانية وأنها فوق اعتبار الجنس والنوع ، مثل قوله تعالى : {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } سورة النساء آية 1 .
مما تقدم يتضح أن القرآن قد تضمن مسائل دستورية مهمة ، ولكن يجب أن يلاحظ أن الآيات السابق ذكرها ليس المراد من إيرادها الحصر بل التمثيل ، وإلا فإن من الممكن استخراج مسائل دستورية أخرى من القرآن الكريم .
أما فيما يتعلق بالأمور المنظمة للشورى ، والمحققة للعدل والمساواة وغيرها من تفاصيل الأحكام الدستورية فمتروك لأولي الأمر ؛ ليفرعوا ويفصلوا حسب مقتضيات الحال ومصالح الناس دون أن يصطدموا بحكم تفصيلي شرعه القرآن ، مراعين في ذلك تلك الأحكام الكلية ، والنصوص الدالة على رفع الحرج ، والدالة على إيجاب الوفاء بالعهد ، والنصوص التي دلت على أن الأصل في الأشياء الإباحة .
الإسلام والدستور