قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «لَأَنْ تَغْدُوَ فَتَتَعَلَّمَ بَابًا مِنَ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ مِائَةَ رَكْعَةٍ»

الأحد، 22 يناير 2012

السياسة الاقتصادية عند عمر بن عبد العزيز


في عصرِ عمرَ بن عبدِ العزيز رضي الله عنهُ جُمعت الزكاةُ ، وأرادَ أن يوزِعَها فلمْ يجدْ فقيرًا واحدًا في أنحاءِ الأمةِ ، وكانَ عمر يحكمُ أمةً تمتدُ حدودُها من الصينِ شرقًا إلى باريس غربًا ومن حدودِ سيبيريا شمالًا إلى المحيطِ الهندي جنوبًا ومع ذلك جمعَ الزكاةَ فلمْ يجدْ مسكينًا واحدًا يأخذُ الزكاة ....
لماذا لم يجد عمر رضي الله عنه فقيرًا في دولته؟ وماذا فعل بأموال الزكاة ؟

لم تَكُن سياسةُ عمر المالية ارتجاليةً، فهو مسؤولٌ عن دولةِ، وكانَ يحسبُ حسابًا لكلِّ خطوةٍ يخطُوها، ويضعُ الضماناتِ لكُلِّ عملٍ يعتزمُ تنفيذَه، ولقد سارَ في سياستِهِ على أمورٍ، منها:
- العزمُ على الاعتِصامِ بالكِتابِ والسُنةِ، والتَضحيةِ في سبيلِ ذلك، وهذا ما يبدو واضحًا من كُتُبه للعمالِ وخُطَبِه إلى رعيتِهِ، ومثالُ ذلك قولُهُ: سَنَّ رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- و ولاةُ الأمرِ من بعدِهِ سننًا الأخذُ بها اعتِصامٌ بكتابِ الله وقوةٌ على دينِ الله، ليسَ لأحدٍ تبديلُها ولا تغييرُها، ولا النظرِ في أمرٍ خالفَها.
 - ترسيخُ قيمِ الحَق والعدلِ ودفعِ الظلمِ: وهَذا هُو أسَاسُ سياسَةِ عمرَ، فجَميعُ الأهدافِ والوسَائلِ التي اتبَعَها كانت تنسَجِمُ مَع هَذا الأسَاس، وإحقاقِ الحقِ ودَفعِ الظُـلمِ هُو أصلٌ من أصولِ الشريعةِ، ومقصدٌ رئيسِي من مقاصِدها قال تعالى: ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)) .
يقولُ ابنُ القيمِ: فإنَّ الشريعةَ مـَـبناها وأسَاسُها على الحُكمِ ومصالحِ العبادِ في المعاشِ والمَعادِ، وهي عدلٌ كلّها، ورحمةٌ كلّها ومصالحٌ كلّها، وحِكمَةٌ كلّها، فكلُّ مسألةٍ خَرَجت عن العدلِ إلى الجورِ، وعن الرحمَةِ إلى ضدِها وعن المصلحَةِ إلى المفسدة، وعن الحكمَةِ إلى العبثِ فليست من الشريعَةِ، ولقد كانَ عمر يرجعُ للحق إذا تبيَّن لَهُ الخَطَأُ، ويقولُ في ذلك: ما من طينة أهونُ عليَّ فتًّا ولا كتاب أيسر عليَّ ردًا من كتابٍ قضيتُ به، ثمَّ أبصرتَ أنَّ الحقَ في غيره ففتتها.
أولاً: أهدافُ السياسةِ الاقتصادية عندَ عمر
1 ـ إعادةَ تَوزيعِ الدّخلِ والثَروةِ بشَكلٍ عادلٍ:
لَقَد سَعى عمر بنُ عبدِ العَزيزِ لإعادَةِ تَوزيعِ الدّخلِ والثَروةِ بالشَكلِ العادِلِ، الذي يُرضي الله تَعالى ويُحقِقَ قِيمَ الحَقِ والعَدلِ ، والتي وَضَعَها عُمَرُ نصبَ عينَيهِ فَقَد كانَ يُراقِبُ الانحِرافاتِ السابقَةِ قَبلَ خِلافتِهِ ويُلاحِظُ آثَارَها السَلبيَةَ على نُفُوسِ الرَعِيةِ وَلَقَد انتَقَدَ سِياسَة سُليمان بنُ عبدِ الملكِ التَوزيعِيةِ فَقَالَ لَهُ: لَقَد رأيتُكَ زِدتَ أَهَلَ الغِـَنى وَتَرَكتَ أَهلَ الفَقرِ بفَقرِهِم..
فَقَد أَدرَكَ عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ أنَّ التَفاوتَ الاجتِماعي هُو نَتيجَةٌ لسُوءِ تَوزيعِ الثَروةِ، فَرَسَمَ سِياسَتَهُ الجَديدَةَ لإنصَافِ الفُقَراءِ والمَظلومينَ وَلَقَد اسِتَخدَمَ عُمَرُ للوصُولِ إِلى هَذا الهَدَفِ بَعضَ الوسَائلِ العَمَليةِ مِنها
:
- منعُ الأمَراءِ وَالكُبَراءَ منَ الاستِئثَارِ بثَروةِ الأمةِ، وَمُصادَرةِ الأملاكِ المَغصوبَةِ ظُلمًا، وَالتي استَولَى عَليها الأُمَراءُ والكُبَراءُ، وَإعَادَةِ هَذِهِ الأموالِ إِلَى أَصحَابِها إذا عَرَفُوا أَو إِلَى بيتِ المَالِ، إذا لَم يُعرَف أَصحَابُها، أَو كَانت منَ الأموالَ العَامَةِ.
- زِيادَةُ الإنِفاقِ عِلَى الفِئاتِ الفَقيرَةِ وَالمَحرُومَةِ وَرِعَايَتَها وَتَأمِينِ مُستَوى الكِفايَةِ لَها عَن طَرِيقِ الزَكاةِ وَمَوارِدَ بَيتِ المَالِ الأُخرَى، وَقَد قَام بِتَنفيذِ هَذِهِ السِياسَةِ، وَلَقَد كَانت سياسَةُ عُمَرَ التَوزيعيةَ تَهدُفُ إِلَى إِيصالِ الناسِ إِلَى حَدِ الكِفَايَةِ:
يُلاحَظُ ذَلِكَ مِن خُطَبِهِ، فَقَد خَطَبَ الناسَ يَومًا فقال: وددن أنَّ أَغنياءَ الناسِ اجتَمَعوا فَرَدوا عَلَى فُقَرائهم حَتَى نَستَوي نَحنُ وَهُم و َأَكونَ أَنَا أولهم.
وَفي خُطبَةٍ أُخرَى:.. مَا أَحَدٌ مِنكُم تَبلُغني حَاجَتَهُ إلا حَرَصتُ أَن أَسُدَّ مِن حَاجَتِهِ مَا قَدَرتُ عَلَيهِ وَمَا أَحَدٌ لا يَسَعَهُ مَا عِندي إلا وَدَدتُ أَنَّهُ بُدِئ بِي وَبِلحمَتي الذي يَلونني حَتَى يَستَوي عَيشُنا وعَيشُكُم ....
وَقَد طَبَقَ عُمَرُ هَذَا التَطَورَ عِلمِيًا عِندَما أَمَرَ بِقَضاءِ دَينِ الغارمين فَكَتَبَ إِليهِ عَامِلُهُ: إنَّا نَجِدُ الرَجُلَ لَهُ المَسكَنُ وَالخَادِمُ، وَلَهُ الفَرَسُ والأَثاثُ في بَيتِهِ، فَأجَابَ عُمَرُ: لا بُدَّ للرجُلِ مِنَ المسلمين مِن مَسكَنٍ يَأوي إليهِ رَأَسُهُ وَخَادِمٍ يَكفيهِ مِهنَتَهُ، وَفَرَسٌ يُجاهِد عَليهِ عَدُوَهُ، وَأَثاثٌ في بَيتِهِ، فَهو غَارِمٌ فاقضُوا عَنهُ، فسياسَةُ عُمَرَ التوزيعيةَ تَهدُفُ إِلَى كِفَايَةِ الناسِ مِن حَيثُ المَسكَن وَالمَركَب والأثَاث، وَهِي عِبَارَةٌ عَن حَاجَاتٍ أَسَاسِيَةٍ، وضَروريَةٍ للإنسَانِ وَ تَصعبُ الحياةُ بِدونِها.
-2 تَحقِيقُ التَنمِيَةِ الاقتِصَادِيَةِ والرَفَاهِ الاجتِمَاعِي:
سَعَى عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ عَن طَرِيقِ العَدِيدِ مِنَ الوَسَائلِ لتحَقِيقِ هَذَا الهَدَف، فَقَد أَوجَدَ المَنَاخَ المَنَاسِبَ للتَنميَةِ عَن طَرِيقِ حِفظِ الأَمنِ وَالقَضَاءِ عَلَى الفِتَنِ، وَرَدِ الحُقُوقِ لأَصحَابِهَا، وَبذَلكَ بَاتَت الرَعِيَة مُطمَئِنَة علَى حُقُوقِهَا، آَمِنَةً فِي أَوطَانِهَا كَذَلِكَ أَمَرَ بِبنَاءِ المَرافِقِ العَامَةِ، وَالتي تُسَمَى اليَوم بمَشَارِيعِ البُنيَةِ التَحتِيَةِ، وَلا تَقُومُ التَنميةُ إلا بِهَذِهِ المَرافِقِ الضرَوريَةِ مِن أَنهَارٍ وَترعٍ ومواصلاتٍ وطُرُقٍ، وَقَد أَكدَ عُمر علَى مَبدأ الحُريَةِ الاقِتِصاديةِ المُقَيَدَةِ بِضَوابِطِ الشَريعَةِ، فَانتَشَرَ الناسُ فِي تِجارَتِهم وتَثمِيرِ أَموالِهم واهتَمَ كَذَلِكَ اهتِمامًا بالغًا بالزِراعَةِ، حَيثُ كان القِطاعُ الزِراعي مِن أَكبَرِ القِطاعَاتِ عَلَى المُستَوى الفَردِي، وَلَهُ مَردودٌ كبيرٌ عَلَى مِيزانيةِ الدَولَةِ، وَقَد جَنَى عُمر والأمةُ كُلُّها ثَمَراتِ هَذِهِ السِياسَةِ، فَقَد عَمَّ الرَخاءُ البلادَ والعِبادَ،
قَالَ رَجُلٌ مِن وَلَدِ زيدِ بن الخطابِ: إنَّما وَلي عُمر بنُ عبدِ العزيزِ سَنتين ونصفًا وذلك ثلاثون شهرًا فَمَا مَاتَ حَتَى جَعَلَ الرَجُلَ يَأتِينَا بالمَالِ العَظيمِ فَيقولُ: اجعَلوا هَذا حَيثُ تَرونَ فِي الفُقَراءِ، فَما يَبرَحُ حَتَى يَرجِعَ بمَالِهِ، يتذَكَر مَن يَضَعَه فيهم فَمَا يَجدهُ،
ثانيًا: وسائل عمر بن عبد العزيز لتحقيق الأهداف الاقتصادية لدولته:
سعى عمر بن عبد العزيز لتحقيق أهدافه الاقتصادية بوسائل منها:
-1توفير المناخ المناسب للتنمية: وقد عمل عمر على توفير المناخ المناسب للتنمية، وقام بالآتي:

أ- رد الحقوق لأصحابها: فتوفرت أجواء الأمن والطمأنينة، وترسخت قيم الحق والعدالة وردّ الحقوق المغتصبة إلى أبناء الأمة وسمَّاها مظالم
.
ب- فتح الحرية الاقتصادية بقيود: فقد أكد عمر على مفهوم الحرية الاقتصادية المقيّدة، وكتب إلى العمال:.. وإن من طاعة الله التي أنزل في كتابه أن يدْعى الناس إلى الإسلام كافة وأن يبتغي الناس بأموالهم في البر والبحر ولا يمنعون، ولا يحبسون، وقدم في موضوع آخر:... أطلق الجسور المعابر للسابلة يسيرون عليها دون جُعْل؛ لأن عمال السوء تعدوا غير ما أمروا به ولم يتدخل عمر بن عبد العزيز في الأسعار، فعن عبد الرحمن بن شوبان قال: قلت لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين ما بال الأسعار غالية في زمانك وكانت في زمان من قبلك رخيصة؟ قال: إن الذين كانوا قبلي كانوا يكلفون أهل الذمة فوق طاقتهم فلم يكونوا يجدون بُدًا من أن يبيعوا ويكسروا ما في أيديهم، وأنا لا أكلف أحدًا إلا طاقته، فباع الرجل كيف شاء، قال: فقلت: لو أنك سعَّرت، قال: ليس إلينا من ذلك شيء إنما السعر إلى الله، وتشدّد عمر في أمر السلع المُحرَّمة ومنع التعامل بها فالخمر من الخبائث التي لا يجوز التعامل فيها بين المسلمين لحرمتها ولضررها حيث يؤدي شربها إلى استحلال الدم الحرام وأكل المال الحرام. ويقول عمر: فإن من نجده يشرب منه شيئًا بعد تقدمنا إليه فيه نُوجعه عقوبةً في ماله ونفسه ونجعله نكالاً لغيره. وقد أثمرت سياسة عمر في ردِّ الحقوق وإطلاق الحرية الاقتصادية المنضبطة، حيث وفَّرت للناس الحوافز للعمل والإنتاج، وأزالت العوائق التي تحول دون ذلك، وهذا أدى إلى نمو التجارة، وبالتالي إلى زيادة حصيلة الدخل الخاضع للزكاة، وهذا يؤدي بدوره إلى زيادة الزكاة ممَّا يؤدي إلى رفع مستوى الطبقات الفقيرة وارتفاع قوتها الشرائية والتي ستتوجه إلى الاستهلاك، وبالتالي إلى زيادة الطلب على السلعة، والخدمات وهذا كله يؤدي إلى انتعاش الاقتصاد وارتفاع مستوى المعيشة وزيادة الرفاه.
-2 اتباع سياسة زراعية جديدة: فقد اتبع خطوات ترمي إلى زيادة الإنتاج الزراعي للأمة وإليك تفصيل هذه الخطوات:
أ- منع بيع الأرض الخراجية: سأل الناس عبد الملك بن مروان والوليد وسليمان أن يأذنوا في شراء الأرض من أهل الذمة، فأذنوا لهم شريطة أن يضعوا أثمانها في بيت المال، فلمَّا ولي عمر بن عبد العزيز، ترك هذه الأشرية على حالها، وذلك لما وقع فيها من المواريث ومهور النساء وقضاء الديون ولم يقدر على تخليصه، وكتب كتابًا قُرئ على الناس سنة المائة: أن من اشترى شيئًا بعد سنة مائة فإن بيعه مردود وسميت سنة مائة سنة المدة، فتناهى الناس بعدها عن الشراء. ولقد طلب أهل الأرض أن يضع عليهم الصدقة بدل الخراج، فأجاب عمر: إني لا أعلم شيئًا أثبت لمادة الإسلام من هذه الأرض التي جعلها الله لهم فيئًا.. قال أبو عبيدة فكأن مذهب عمر بن عبد العزيز في الأرض أنَّه كان يراها فيئًا، ولهذا كان يمنع أهلها من بيعها. وكتب إلى ميمون بن مهران: أما بعد، فحُل بين أهل الأرض وبين بيعها ما في أيديهم، فإنهم إنما يبيعون فيء المسلمين. كذلك رفض عمر تحويل الأرض التي دخل أهلها في الإسلام من أرض خراج إلى أرض عشر، وأبقى الخراج عليهم والعشر وقال: الخراج على الأرض والعشر على الحب. وبذلك حافظ على المورد الرئيس للإنتاج وجعله ملكًا عامًا للأمة بدلاً من تحويله إلى ملكيات صغيرة.
ب- العناية بالمزارعين وتخفيف الضرائب عنهم:
اعتاد بعض الخلفاء الأمويين قبل عمر بن عبد العزيز على إرهاق المزارعين بالضرائب، فكثُرت الضرائب وتنوعت، واشتد الأمر على أهل الأرض فهجروها، فخرجت، فأضرَّ ذلك بمالية الدولة، ولقد لجؤوا إلى أساليب العذاب في الجباية فاضطر المزارعون إلى بيع دوابهم أو كسوتهم لشديد ما عليهم، وعندما تولى عمر سعى إلى إلغاء جميع الضرائب المخالفة للشريعة، وكتب بذلك إلى العمال كتابًا منها: فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام الله، وسنّة خبيثة استنها عليهم عمال السوء.. ولا تأخذن في الخراج إلا وزن سبعة، ليس لها آيين ولا أجور الضرابين، ولا هدية النيروز والمهرجان، ولا ثمن الصحف ولا أجور البيوت.
وقد ألغى القبالة وكانت مألوفة في البصرة، وألغى أسلوب الخرص؛ حيث كان العمال يقدرون الثمار بسعر عالٍ ويقبضونه نقدًا، وبذلك يرهقون الزراع، فقرر عمر وضع الضريبة حسب الأسعار الفعلية وكتب لعامله: بلغني أن عمالك بفارس يخرصون الثمار ثم يقومونها على أهلها بسعر فوق سعر الناس الذي يتبايعون ثم يأخذون ذلك ورقًا على قيمتهم التي قوموها.. وقد بعثت بشر بن صفوان وعبد الله بن عجلان للنظر في ذلك ورد الثمن الذي أُخذ من الناس إلى ما باع أهل الأرض به غلاتهم. ولقد أمر عمر بإلغاء ضريبة ثابتة على أهل اليمن، كالخراج مع أن أرضها أرض عشرية، وكتب إلى عامله على اليمن: أما بعد، فإنك كتبت إليَّ أنك قدمت اليمن فوجدت على أهلها ضريبة من الخراج مضروبة ثابتة في أعناقهم كالجزية يؤدونها على كل حال، أخصبوا أو أجدبوا أو حيوا أو ماتوا، فسبحان الله رب العالمين ثم سبحان الله رب العالمين.. إذا أتاك كتابي هذا فدع ما تنكره من الباطل إلى ما تعرفه من الحق ثم ائتنف الحق فاعمل به بالغًا بي وبك وإن أحاط بمهج أنفسنا، وإن لم ترفع إليَّ من جميع اليمن إلا حفنة من كتم، فقد علم الله إني بها مسرور إذا كانت موافقة للحق والسلام. ويلاحظ من كتب عمر إلى عماله الانحرافات السابقة الظالمة وإنكار عمر لها، وقد كان لها أثر اقتصادي سيء حيث جعلت أصحاب الأرض يضعفوا عن أرضهم ويتركوها فضعف الإنتاج وترتب على ذلك خسارة للبلاد ولبيت المال، وأما عمر بن عبد العزيز فكان مُصرًّا على تطبيق الحق وعدم اهتمامه بالكم بل بالكيف، فهو لا يريد إيرادًا كثيرًا ظالمًا، وقد ساهمت إصلاحات عمر في إلغائه للضرائب الجائرة إلى انتعاش اقتصاد الدولة.
ج- الإصلاحات والإعمار وإحياء أرض الموات:
شجَّع عمر على إحياء الأرض الموات وعلى إصلاح الأراضي للزراعة، وكتب بذلك إلى عامله على الكوفة: لا تحمل خرابًا على عامر ولا عامرًا على خراب، انظر إلى الخراب فخذ منه ما أطاق، وأصلحه حتى يعمر، ولا تأخذ من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض. وكتب عمر: من غلب الماء على شيء فهو له، وعن حكيم بن زريق قال: قرأت كتاب عمر بن عبد العزيز إلى أبي من أحيا أرضًا ميتة ببنيان أو حرث، ما لم تكن من أموال قوم ابتاعوها من أموالهم، أو أحيوا بعضًا وتركوا بعضًا، فاجز للقوم أحياءهم الذي أحيوا ببنيان أو حرث. وحرص عمر على استغلال أرض الصوافي، ورأى أن ملكيتها لبيت المال، ومنع الإقطاع منها وأمر بإعطائها مزارعة على النصف فإن لم تزرع فعلى الثلث، فإن لم تزرع فأمر بإعطائها حتى تبلغ العشر فإن لم يزرعها أحد فأمر بمنحها، فإن لم يزرعها أحد فأمر بالإنفاق عليها من بيت المال.
وقد اهتم عمر بالمزارعين ورفع الضرر عنهم، ويُروى في ذلك أن جيشًا من أهل الشام مرَّ بزرع رجل فأفسده، فأخبر الرجل عمر بذلك، فعوضه عشرة آلاف درهم، وكان يقدم القروض للمزارعين، فقد جاء في رسالته لواليه على العراق: أن انظر مَن كانت عليه جزية فضعف عن أرضه فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه فإنا لا نريدهم لعام ولا لعامين.
د- عمر والحمى:
منع عمر الحمى الخاص وأباح هذه الأراضي للمسلمين جميعًا، لا تختص بها طائفة على أخرى وفي ذلك يقول: ونرى أن الحمى يُباح للمسلمين عامة، وكانت تحمى وتجعل فيها نعم الصدقات، فيكون في ذلك قوة ونفع لأهل فرائض الصدقات، وأدخل فيها وطعن فيها طاعن من الناس، فنرى في ترك حماها والتنزه عنها خيرًا، إذا كان ذلك من أمرها، وإنما الإمام فيها كرجل من المسلمين، وإنما هو الغيث ينزله الله لعباده فهم فيه سواء، وعندما أباح الإحماء كلها استثنى النقيع الذي حماه الرسول عليه الصلاة والسلام لإبل الصدقة. فبالحمى تصبح الأرض لجماعة المسلمين، ونفعها مصروف لهم، فالحمى نقل الأرض من الإباحة إلى الملكية العامة، لتبقى موقوفة على جماعة المسلمين.
هـ- توفير مشاريع البنية التحتية:
سعى عمر بن عبد العزيز لتوفير هذه المشاريع منذ كان أميرًا على المدينة حتى أصبح خليفةً للمسلمين، فاهتمَّ بالمشاريع التي تخدم التجار والمزارعين والمسافرين، وعندما كان واليًا على المدينة كتب إليه الوليد بن عبد الملك كتابًا في تسهيل الثنايا وحفر الآبار في المدينة فحفر منها بئر الحفير وكانت طيبة الماء. كذلك عمل عمر بأمر الوليد فوّارة ماء، وأجرى ماءها ووسع المسجد النبوي ورفع منارته وجوّف محاربيه، وأنشأ الخانات والفنادق ودار الضيافة للحجاج والمسافرين. كما استمر حفر خليج أمير المؤمنين بين النيل والبحر الأحمر لتسهيل نقل الطعام من مصر إلى مكة حتى أيام عمر بن عبد العزيز. وكتب إليه عامله على البصرة يعرض طلب أهلها بحفر نهرٍ لهم، فأذن له عمر وحفر النهر، وسمي نهر عدي.
ثالثًا: سياسة عمر بن عبد العزيز المالية في الإيرادات:
إن السياسة المالية بإراداتها ونفقاتها تعتبر أداة هامة لتحقيق الأهداف الاقتصادية، لذلك بدأ عمر سياسته المالية بزيادة الإنفاق على عامة الشعب، فأنفق في رد المظالم حتى أنفد بيت مال العراق، وجلب إليه من الشام، وأنفق على المشاريع الزراعية، ومشاريع البنى الأساسية، كما أنفق على الرعاية الاجتماعية لجميع طبقات الشعب وفي جانب الإيرادات، سعى إلى إلغاء الضرائب الظالمة، فرفع الجزية عمَّن أسلم، وألغى الضرائب الإضافية التي كانت تُؤخذ من المزارعين، وألغى المكوس والقيود، كما حافظ على حقوق بيت المال المسلوبة، فأعاد إليه القطائع، والمظالم، وأوقف امتيازات الأمراء والموظفين، وبالغ في الاقتصاد في الإنفاق الإداري والحربي، كل ذلك أدى إلى إطلاق الطاقات، فنمت الزراعة والتجارة، وجنى ذلك بزيادة ونمو الإيرادات، فزادت إيرادات الزكاة والخراج والعشور وفاضت ميزانية الدولة، فوجَّه عمر الفائض لزيادة الإنفاق العام لتحقيق الأهداف الاقتصادية.
ونلاحظ في التاريخ كلما استقام أمر الدولة وسارت على نهج الشريعة الإسلامية الغرّاء فاض ميزانها المالي، ولم يشعر أفرادها بعسف ولا إرهاق، ولم تهمل مصلحة من مصالحها، وكلما أعوج أمر الدولة، وحادت عن سبيل الشريعة، اختل التوازن المالي، فميزانية الدولة مرآة عدلها وجورها ونظامها وفوضاها.
المصدر : الشام اليوم