قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «لَأَنْ تَغْدُوَ فَتَتَعَلَّمَ بَابًا مِنَ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ مِائَةَ رَكْعَةٍ»

الجمعة، 18 نوفمبر 2011

سارع إلى الجنة


إخواني: لقد خاب من باع باقياً بفان، وخطر في ثوبي متوان، وتغافل عن أمر قريب كان، وضيع يوماً موجوداً في تأميل ثان، أما الجنة تشوقت لطالبيها، وتزينت لمريديها، ونطقت آيات القرآن بوصف ما فيها، وملأت أسماع العباد أصوات واصفيها، كأنكم بالجنة وقد فتحت أبوابها، وتقسمها يوم القيامة أصحابها، وغنت ألسن الأماني قريب قبابها
بُشرَها دَليلَها وقالا: ... غَداً تَرينَ الطَلحَ والجِبالا
روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: (قلنا: يا رسول الله، حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال: لبنة من ذهب ولبنة من فضة: ملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها الياقوت والجوهر، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم لا ييأس، ويخلد لا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه) روى أُسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوماً: (ما ذكر الجنة إلا مشمر إليها، هي ورب الكعبة نور يتلألأ، ونهر مطروز، وزوجة لا تموت، وحبور ونعيم، مقام أبداً، فقالوا: نحن المشمرون لها يا رسول الله، فقال: قولوا: إن شاء الله) روى سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، وإن جنة الفردوس، وسطها وأعلاها سماء، وعليها يوضع العرش يوم القيامة، ومنها تفجر أنهار الجنة، قال رجل: فداك أبي وأمي يا رسول الله، فيها خيل؟ قال: نعم، والذي بعثني بالحق إن فيها لخيلاً من ياقوت أحمر، يروث بين خلال ورق الجنة، يتراءون عليها، فجاء رجل فقال: بأبي وأمي فداك، هل فيها صوت؟ قال: نعم، والذي نفسي بيده إن الله عز وجل يوحى إلى شجرة في الجنة أن أسمعي عبادي الذين شغلهم ذكري في الدنيا عن عزف المزاهر والمزامير بالتسبيح والتقديس)
يا نفس: بادري بالأوقات قبل انصرامها، واجتهدي في حراسة ليالي الحياة وأيامها، فكأنك بالقبور وقد تشققت وبالأمور وقد تحققت، وبوجوه المتقين، وقد أشرقت، وبرءوس العصاة وقد أطرقت يا نفس: أما الورعون فقد جدلوا، وأما الخائفون فد استعدوا، وأما الصالحون فقد راحوا، وأما الواعظون فقد صاحوا يا نفس: اتعبي قليلاً تستريحي في الفردوس كثيراً، كأنك بالتعب قد مضى، وبحرصك من اللعب قد مضى، وثمر الصبر قد أثمر حلاوة الرضا، لا يطمعن البطال في إدراك الأبطال، هيهات أن يدرك البطل المجتهد من غاب حين النزال فما شهد حفت الجنة بالمكاره فلا يوصل إليها إلا بالمضض، كذلك كل محبوب يلذ، وكل عرض من غير مشقة، وإلا، متى لم يبعد على طالبٍ المشقة: العلم لا يحصل إلا بالنصب، والمال لا يجمع إلا بالتعب، واسم الجواد لا يناله بخيل، ولا يلقب بالشجاع إلا بعد تعب طويل
لَولا المشَقَة سادَ الناس كُلَهُم ... الجود يفقر والإِقبالُ قتَّالُ
أيها العبد: إن عزمت فبادر، وإن هممت فثابر، واعلم أنه لا يدرك المفاخر، من كان في الصف الآخر سلع المجد كاسدة، وكأن قد غلت، ومراعى الفضل قريبة، وكأن قد علت، وكأنك بغايات الغفلات قد انجلت، فأصبحت حلاوة البطالة من أفواه الغافلين قد رحلت، وأصبحت رايات المجاهدين قد حلت، وتفاوت في السباق مضمار وبطين، كما تفاوت في الإحراق ماء وطين
لا تَحسَبَ المجدَ تَمراً أَنتَ آكِلُهُ ... لا تَبلُغ المجدَ حَتى تَلعَق الصَبرا
فاصبر للبلايا فحينها يسير، وأثبت للرزيا فأجرها كثير، وأحسن قرى ضيف الهم بالصبر الغزير، وتجلد على الظمأ فبين يديك ماءٌ غيرٌ
لا تجزَعَّنَ مِنَ المَنايا إِذا أَتَت ... واصبِر لِما تأَتي بِهِ الأَقدارُ
وغَدا الصَبور يَجُرُّ ذيلَ سُرورِه ... في جَنَّةٍ مِن تحتِها الأنهَار
فكأَن قَد انكشَفَت غيايات البلا ... وانجابت الآفات والأَكدار
وجَرى الجَزوعُ لِما جَنَى ثَمَرَ الأَسَى ... فجَرى بِلَا أَجر لَهُ المِقدار
إِنِّي رأَيتُ معاشِراً لَم يفهموا ... مَعنى الوجود فأَصبَحوا قَد حاروا
دُنياكَ دارٌ للبَلايا مهَّدَت ... ووراء ذَلك إِن عقلت نهار
 مواعظ ابن الجوزي